
د. احمد عبداللاه
اعتمدت الدولة السعودية الثالثة سياسات الصبر الطويل في تعاملها مع قضايا داخلية وخارجية. صبر فاق حسابات التكتيك والاستراتيجيا.
ومن أراد أن يتأمل في هذا الامر عليه ان يحسب الزمن الممتد:
من الطفرة السعرية الأولى للنفط وحتى أول برنامج تنموي برؤية شاملة. ومن “اتفاق كوينسي” عام 1945م حول ضمان إمدادات الطاقة مقابل الحماية وحتى توفرت حديثاً القناعة بضرورة الاعتماد على الذات والتنوع في العلاقات والشراكات.
ومن “الصحوة” التي قادها رجال الدين وساهمت في المزيد من تأزيم الفكر الإسلامي ونشر بذور التطرف وأثّرت على المملكة لفترة زمنية طويلة، حتى الإصلاحات الداخلية التي يقودها ولي العهد. (بالرغم من أن استمرار دعم تيارات أصولية خارج حدودها يبقى مثيرا للتساؤلات).
وأخيراً المراحل الزمنية التي استهلكها نظام التوارث التقليدي للعرش، المستند إلى الأقدمية في السن على اعتبار أن “السلالة أهم من الكفاءة”، حتى أتى التغيير ودفع بجيل الشباب إلى الواجهة.
وفي المقابل كان أبرز نجاح حققته المملكة في تاريخها هو تثبيت الحالة الجغرافية وترسيم حدودها مع الجيران، بمشاركة فاعلة من شركة أرامكو، رغم ما خلفه من أثر عميق في الذاكرة السياسية لأشقائها.
تسعى السعودية اليوم أن تقدم نفسها بصورة مختلفة تماماً، مستندة إلى رؤية تستهدف نهضة شاملة، مع التركيز على التنمية الاقتصادية أكثر من الانغماس في الصراعات الجيوسياسية (مثلما قال وزير خارجيتها)، كما تعمل على تبني مقاربة جديدة للملفات الإقليمية بالإضافة إلى محاولة بناء علاقات متوازنة مع الغرب والشرق بما يعزز دورها المتنامي.
أليست تلك وثبة تاريخية تجاوزت كلاسيكيات البيروسترويكا مع أن الأخيرة ليست إطار معياري إلا في تسارع الإيقاع؟
وفي سياق مقارن، تمتلك دولة قطر ثالث أكبر احتياطي مؤكد للغاز الطبيعي في العالم (إحصاءات 2024) بعد روسيا وإيران وتعمل على أن تصبح المورد الرئيسي للغاز المسال، حيث يغطي “حقل غاز الشمال” – وهو الامتداد الجنوبي لحقل بارس الجنوبي المشترك مع ايران – مساحة تتجاوز نصف مساحة الدولة.
ومع تولي الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني الحكم عام 1995م بالتزامن مع الطفرة في أسعار الغاز وتنامي الطلب العالمي، بدأت قطر في صياغة استراتيجية التنمية، انعكست على الداخل القطري بإنجازات في التعليم والصحة والبنية التحتية ومستوى المعيشة لتجعل قطر واحدة من أعلى الدول عالمياً في نصيب الفرد من الدخل. كما ساعدت الاستثمارات السيادية على بناء مكانة اقتصادية مؤثرة.
ورغم تلك التحولات إلا أن قطر تبنت سياسة خارجية فضفاضة تراوحت بين المرونة والاندفاع الأيديولوجي، حيث جمعت بين مسارين متناقضين: فهي من ناحية تُعد “حليفًا رئيسيًا للولايات المتحدة من خارج الناتو” و تستضيف على أراضيها أكبر قاعدة جوية أمريكية في المنطقة، ومن ناحية أخرى تقدم دعمًا واسعًا لتيارات الإسلام السياسي، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، وتمنحها منصات إعلامية نشطة و مؤثرة.
ولم تقتصر أدوات قطر على التحالفات السياسية والعسكرية، بل رفعت عبر واجهتها الإعلامية شعار الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية في محيطها العربي. غير أن هذه التجربة لم تُختبر داخلياً، حيث ظل النظام محافظاً على النمط الخليجي التقليدي جداً، رغم قناتها الإعلامية التي قدمت نفسها كمنصة حرة لكل الأصوات، من هسهسة الأشباح غير المرئية إلى صياح الجماهير في ميادين “الربيع العربي”.
وهكذا، ورغم أن قطر بلد صغير بمساحة لا تتجاوز 11,500 كم²، لكن الطموح الجيوبوليتيكي تجاوز قيود الجغرافيا. وبدلاً من أن تصبح دولة عصرية مسالمة، انخرطت في مشاريع ذات طابع أيديولوجي أثارت توترات وأضرت باستقرار المنطقة.
وأخيراً وبالنظر إلى التجربتين يبقى السؤال: لماذا كلما مُنحت بعض من الدول العربية ثروة استثنائية أو مكانة خاصة، آثرت أن يتوسع نفوذها عبر قنوات دينية أصولية و سياسات مثيرة للجدل، بدلاً من تقديم نموذج حضاري متطور يسهم في استقرار محيطها ويعزز تماسكها الداخلي؟ أهو عجز في الخيال السياسي لبناء منظومة اقليمية متوازنة أم إصرار على تشييد النفوذ من خلال إنهاك البيئة المحيطة؟